إنها رحلة تاريخية.. رحلة عمرية.. رحلة خالدة.. إنها رحلة القلوب إلى علام الغيوب.. إنها رحلة الأفئدة إلى رب البرية.. لن تجد في حياتك رحلة أجمل منهاوأمتع منها وأروع منها..
إنهارحلة المشتاقين..
إنها رحلةالمحبين..
إنهارحلة المؤمنين..
قال سري السقطي رحمه الله: خرجت إلى الحج من طريق الكوفة فلقيت جارية حبشية تمشي فقلت إلى أين يا جارية ؟ فقالت: إلى مكة فقلت لها:إن الطريق بعيد، فقالت: ( بعيد على كسلان أو ذي ملالة وأما على المشتاق فهو قريب).
قلوب اشتاقت إلى الله.. قلوب أحبت لقاء الله.. فلم تتوانى أو تتكاسل عن أداء هذه الفريضة مهما كان بُعدُ الطريق.. ومهما قلَّ الزاد والمال.. لكن الاشتياق يتعدى كل ذلك.. ( وأما على المشتاق فهو قريب).
إنها رحلة القلوب يوم أن خرج الحاج لا رياء ولا سمعة.. وإنما خرج بقلبٍ كله إخلاص لأن رحلة الحج تتطلب إخلاصا وتتطلب توحيدا..
إنه خرج في هذه الرحلة كل همه أن يرضى الله عنه.. لم يخرج لمال ولا لجاه ولا لوظيفة ولا لزواج.. وإنما خرج يريد تطهيرا وتزكية.. يريد تكفيراً ومكرمة..
غاية الرحلة ومقصودها وأمنية الرحلة ومنشودها هو أن يخرج الحاج نقياً من الذنوب.. طاهرا من السيئات.. ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).. فأي فضل أعظم من هذا.. وأي جزاء أجزل من هذا ؟
أخي الحبيب.. إن المتأمل في رحلة الحج ليجد زهداً عن الدنيا وبعداعن ملذاتها.. هروبٌ كامل عن زينة الدنيا.. وابتعادٌ كامل عن شهوات الدنيا.. ففي لباس الإحرام مثلا تذكير بلباس الكفن.. وما أجمل أن يستحضر المحرم أنه حين يلبس ملابس الإحرام يتذكر ذلك الكفن الذي يلبسه عند الموت فتصفوا نفسه، ويزداد إيمانه، ويرق قلبه.. ( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون).
وفي استحباب الاغتسال عند الإحرام تذكيرٌ للمحرم بالطهارة القلبية.. فكما أن المحرم طهر جوارحه بالاغتسال فيحرص أيضا على تطهير قلبه من الأدران والذنوب.. فلابد من التخلية قبل التحلية.. فيصبح القلب أبيضا كما أن الجسد تلبَّس بالبياض.. فما أجمل ذلك اللباس !
بل يزداد الإيمان ويقوى إذا قال المحرم: ( لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).. ما أروع هذا الذكر.. وما أعظم هذه التلبية..
فإذا قال الحاج ( لبيك اللهم لبيك... ) ثارت نفسه بالأشواق.. وفاضت نفسه بالحب، والتهبت شعلة التوحيدفي عروقه ودمه.. ويشعر الحاج أنه ليس وحده الذي يُلبِّي.. بل تُلبِّي الأشجاروالأحجار..
وفي صحيح الجامع: ( ما من مسلم يُلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أومدر حتى تنقطع الأرض من ههنا أو ههنا ).. الله أكبر.. حتى الأشجار والأحجارتلبِّي فما أعظم هذه التلبية.
وهنيئا لك يا من عزم على الحج وأنت قد وصلت إلى البيت وطفت به.. ذلك البيت الذي تهفو النفوس إليه.. ذلك البيت الذي تشتاق القلوب إليه.. فصف لي بالله كيف يكون شعورك.. وصف لي بالله كيف يكون إيمانك..؟
ثم عندي رجاء لكل من عزم على الحج هذا العام أن لا يفوتك وأنت في زحمة الطواف أو السعي أو في عرفة أو غير ذلك من المشاعر أن تتذكر ذلك الزحام الرهيب يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا.. لكن هذا الزحام زحام من نوع آخر.. إنه زحام مع خوف ووجل.. ورهبة خشوع.. ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)...
وهكذا لا يخطو الحاج خطوةولا يتحرك في المناسك حركة إلا وهو ينظر فيها إلى الله.. ويتطلع فيها إلى مرضاةالله..
أظنكم أحبة الإيمان اتفقتم معي بأن رحلة الحج ليست رحلة أجساد.. وإنما هي رحلة القلوب إلى علام الغيوب..هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.