كيف تربي أبناءك ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
يزعم بعض الآباء أن التربية تكون بإظهار العنف والقسوة والعبوس . فيرى الأب مقطب الجبين في منزله كأنه آلة للانتقام أو مثال للإرهاب . فيتجنبه الأولاد ، ويتوارى كل منهم في زاوية ، خوفا منه ورهبة من غضبه لا احتراما أو حياء منه ..
يقول ابن خلدون في مقدمته : " من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الخدم ، غلب عليه القهر وضاقت نفسه ، وحمل على الكذب والخبث ، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه " .
وكثيرا ما تتعب الأم في تأنيب أبنائها الذين لا يستمعون لأوامرها ، ويستمرون في مشاحناتهم ، حتى إذا فقدت صبرها ثارت عليهم وتوعدتهم " انتظروا حتى يعود أبوكم من عمله فيؤدبكم " . ويعود الأب في المساء مرهقا ، مثقلا بهموم عمله ،و هو في أشد الحاجة إلى السكينة والراحة في بيته ، وتواجهه زوجته بمشاكل أبنائه : " إني عاجزة عن تربية أبنائي ، فلا بد أن تفعل شيئا ؟ "
وينهال الأب على الطفل ضربا ، فيهرب إلى سريره وينام باكيا ، وما تلبث الكوابيس أن تداهمه فيستيقظ صارخا ، وتضرب الأم كفا بكف لا تدري ما تفعل ، وتبدأ المشاحنات والاتهامات بين الأبوين ، وكل منهما يعلن أنه غير صالح لتربية أبنائه ، ويغرق الأبوان في ندم شديد ، ويأخذ لوم النفس على عقاب الابن طابع المأساة ، وهكذا تنتقل إلى الطفل رحلات الندم والقلق بين الأبوين ، فيشعر أنه كائن مزعج فيتمادى في الإزعاج .
والحقيقة أن مسؤولية التربية تقع على الأبوين معا ، ولا ينبغي أن تعتمد الأم على الأب في تهديد ولدها وعقابه ، فيصبح الأب في نظر ابنه كالشرطي للمجرم ، لا صلة بينهما إلى عند الاختلاف في الرغبات .
ولا نغفل ضرر الاختلاف الذي يحدث بين الأب والأم في البيت من أجل الطفل ، فإن ذلك يضعف نفوذهما ، ويستثمره الولد لمصلحته فيتمادى في غيه ، بل يجب أن يعلم أن سلطة أبويه هي سلطة واحدة .
ولعل أسوأ ما يؤثر في نفس الطفل الخلاف بين الأبوين على مسمع منه ، مما يسبب له لقلق والاضطراب . والأدهى من ذلك أن يغرس كل من الأبوين في نفس الصغار كراهية الآخر ، فتصبح الأسرة وكأنها أحزاب متعارضة متصارعة .
والحقيقة أن الصراخ والضرب لن يفيدا بقدر ما يفيد التأنيب السريع .
وبخهم دقيقة واحدة
ويأتي المربون بأساليب وحلول في التوبيخ والمديح ، ولعل أسلوب " الدقيقة الواحدة " من أنجح تلك الأساليب ، يقول الدكتور " سبنسر جونسون " ، أحد رواد هذا الأسلوب ، في كتابه " أب الدقيقة الواحدة " : " أٍسلوب الدقيقة الواحدة أسلوب حديث ، ربما تشعر في بداية تطبيقه بأنه أسلوب غريب ، ولكنك سترتاح بعد ذلك وتمارسه بشكل طبيعي " .
أخبر أبناءك أولا بأنك لا تريد أن تحكمهم أو يحكموك ، ولا تريد أن تكون دكتاتورا في البيت . أخبر أبناءك أنك ستتبع هذا الأسلوب معهم ، وأنه ستكون هناك بداية جديدة لطريق التأديب ، دع أبناءك يشعرون بعدم الرضا عن تصرفهم الخاطئ ، ولكن بالرضا عن أنفسهم .
إذا ارتكب ابنك خطأ ما انظر في عينيه مباشرة ، وأعد عليه ما فعله باختصار دون أن يأخذ من وقتك إلا ثوان معدودات ، أشعره بعدها أنك غاضب من فعله ودعه يشعر بما تحس به في النصف الأول من الدقيقة ، فلا يكفي أن يتلقى الابن أو الابنة التأنيب ، ولكن المهم جدا أن يشعروا بهذا التأنيب ، دعه يشعر بأنه لا يحب ما فعل ، وقد يرافق ذلك إحساس بالانزعاج منك ، فما من أحد يريد أن يؤنب أو يوبخ ، خذ نفسا عميقا بعد ذلك ، واشعر بالهدوء النفسي ، ثم انظر إلى وجهه في نصف الدقيقة الثني ، بطريقة تجعله يشعر أنك إلى جانبه ولست ضده ، وأنك تحبه ولكنك لا تحب سلوكه فقط ، أخبره أنه ولد طيب ، وأنك راض عنه ، ولكنك لست راض عن سلوكه ، وأنك ما أنبته إلا لأنك تحبه . ضم ابنك إلى صدرك بقوة حتى تشعره بأن التأنيب قد انتهى ، سيشعر أبناؤك بعد حين ، أولا أن تصرفاتهم السيئة لن تمر دون محاسبة ، وثانيا أنهم أبناء طيبون ، وثالثا أنهم محبوبون من قبل أبويهم .
فلا يكفي أن يكون الطفل محبوبا ، بل ينبغي أن يشعر الأبناء بأنهم أناس طيبون ، وأن الابن مازال محبوبا ، ولكن الأم أو الأب لا يحب ذلك التصرف الخاطئ بذاته .
وهكذا يشعر الأطفال أن عليهم أن يكونوا صادقين مع آبائهم ، يأتون إليهم يعبرون عن مشاعرهم وأحاسيسهم ، يشعرون بالغضب من أنفسهم عندما يسيئون التصرف ، ثم يعبرون عن حبهم لأبويهم . والحقيقة أن الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – قد تنبه إلى هذا الأسلوب قبل ذلك بقرون عديدة ، فقال في معالجة خطأ الطفل : " ينبغي أن يعاتب الولد سرا ، ويعظم الأمر فيه ، ويقال له : إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا ، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين ، فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ، ويسقط وقع الكلام من قلبه " .
وامدحهم في دقيقة
أخبر أبناءك أنك ستمدحهم عندما يحسنون التصرف ، انتبه إليهم عندما يتصرفون بشكل جيد ، وأخبرهم – في نصف الدقيقة الأولى – بما فعلوه ، وأن هذا الأمر قد جعلك سعيدا. توقف بعدها عن الكلام لثوان معدودات ، فصمتك يشعرهم بالرضا عن أنفسهم، ثم أخبرهم أنك تحبهم ، واختم مديحك بالاحتضان أو بلمسة حانية على الرأس . كل ذلك لن يأخذ منك أكثر من دقيقة واحدة ، ولكن شعورهم بالرضا عن أنفسهم سيواكبهم طيلة حياتهم ، وربما كان مديح الدقيقة الواحدة أجمل هدية يقدما الأبوان للأبناء ، وينبغي أن نفكر دوما في مكافأة الطفل على إحسانه القيام بعمل ما . فهذا صلاح الدين الأيوبي ، وهو في خضم المعركة ، يتجول في المعسكر فيمر على صغير بين يدي أبيه يقرأ القرآن ، فاستحسن قراءته ، فلم تشغله المعارك عن مكافأة ذلك الطفل ، فقربه إليه ، وجعل له حظا من خاص طعامه ، ووقف عليه وعلى أبيه جزءا من مزرعته
يقول الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – في " الإحياء " : " ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود ، فينبغي أن يكرم ويجازى عليه ، بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس ".
وقراءة الأهداف في دقيقة
إن رغبة الأطفال في تحسين سلوكهم تتولد من رضاهم عن أنفسهم ، وحين يشعر الطفل بذلك الرضا يزداد رغبة في تطوير نفسه وتهذيب سلوكه .
وما من أحد منا إلا ويريد أن يكون أبناؤه أقوياء ، واثقين بالله وبأنفسهم ، قادرين على تحقيق غاياتهم . ولكن هل حقا نشارك أبناءنا في التخطيط لتطوير أنفسهم ؟ اطلب منهم أن يسجلوا معايبهم التي تحتاج إلى تهذيب وتطوير في حياتهم الجديدة ، فهذا يحسن من سلوكه مع إخوته ، وذاك يخفض من صوته أثناء الكلام ، وثالث يقلع عن عادة من العادات الذميمة . ويضع كل واحد من الأبناء أهدافه على ورقة صغيرة ، ويتعاهد الجميع على تنفيذ تلك الأهداف ، وتجتمع العائلة في نهاية الأسبوع ، يستعرض كل فرد منها أهدافه ، ويقابل سلوكه الحالي بأهدافه ، ليرى ما إذا كان قد استطاع تطوير نفسه ، ولا تستغرق قراءة تلك الأهداف أكثر من دقيقة واحدة ، ويشعر الطفل أن أمامه مسؤولية تحقيق تلك الأهداف التي حددها لنفسه ، وتعهد بها أمام عائلته .
مثلما نفكر نكون
ومن المعروف أن للعقل جانبين : العقل الواعي ، والعقل الباطن . والعقل الأكثر تأثيرا في الإنسان هو العقل الباطن ، فهو يسجل كل شيء يراه ويسمعه الإنسان ، ولا يستطيع العقل الباطن عادة غربلة الأشياء التي يسجلها ، وقد تصبح تلك الأشياء – في الغالب – جزءا منه .
والطفل يميل إلى تصديق كل ما يسمعه ، حتى لو اعتقد أن ذلك ربما يكون خاطئا ، ولهذا فالأطفال يصدقون أنهم سيئون عندما يردد آباؤهم عليهم هذه الصفة ، فيترسب في عقلهم الباطن ، ومع الأيام يعتقدون فعلا أنهم سيئون ، وعندما يصدق الإنسان أنه حقا يتصف بتلك الصفة ، يتخذها سلوكا له ، وكأنها حقيقة واقعة ، فسترى أنهم يتخذون القرارات الخاطئة ، ويتطلب الأمر منك دوما إرشادهم ليسيروا بطريقة صحيحة .
وعندما يصدق طفلك أن حسن الأخلاق ، ويتكرر ذلك منك مرارا ، فإن عقله الباطن سيمتص تلك الفكرة ، وسيتخذها الطفل سلوكا له ، وعلى الآباء أن يتعلموا الإصغاء إلى أبنائهم كي يتعلم الأبناء كيف يصغون لآبائهم . وأفضل خدمة تقدمها لأبنائك هي تغذية عقولهم بأفكار عن أنفسهم ، لأن ذلك سيساعدهم على الشعور بالرضا عنها ، والرغبة في تحسين سلوكهم .
وحتى لو أخطأت أنت ، فلا تحاول إخفاء الخطأ أمام أبنائك ، بل يزيدهم اعترافك بالخطأ إكبارا لك وتعظيما ، وسيحفزهم ذلك على أن يفعلوا الشيء نفسه معك إن كانوا هم الخاطئين .
دع أطفالك يشعرون من خلاق معاملتك معهم أنك سعيد بهم كما هم ، وينبغي أن تكون المعاملة ثابتة على مبادئ معينة ، فلا تمدح اليوم ابنك على شيء عاتبته بالأمس على فعله ، ولا تزجره إن فعل شيئا شجعته على القيام به من قبل ، ولا ترتكب أبدا ما تنهي طفلك عنه .
وأخيرا على الآباء والأمهات أن يتواضعوا احتراما أمام عظمة الطفل ، وأن يفهموا أن كلمة " الطفل " لفظة مرادفة لكلمة " الملك " ، وأن يشعروا أن من ينام بين ذراعيهم هو " المستقبل " بنفسه ، وأن من يلعب الآن بين أقدامهم مستغرقا في اللهو هو " التاريخ " بعينه .
[center]